الضِحكةُ الأخيرةُ
كان بالأمسِ يجلسُ على قِطعةِ حجرٍ صغيرةٍ قربَ رصيف الحيِّ المدمَّرِ في بيروت، مغضَّنَ الجبين ، أسمره. علىوجهه سمات المفكر الفيلسوف في مخيِّلتِك، يحادثُ نفسَه بلا صوتٍ، عيناه تخبران مخاضَ أمرٍ جلل.
لم يكن حليق الذَّقن ، و لم أره مرةً كذلك، ربما لا يملك أدوات حلاقة . شعراتُ لحيته الجعداء غالباً ما تتلاقى رؤوسها عند تلاقي ضفتي أُخدودٍ ما.
إنَّه مجنون الحيِّ كما يقول عنه الجميع، لكن من يراه الآن يشكُّ بما كان يُروى عنه من طرائف و فوارق.
كان القصف قد توقَّفَ، و تمَّ إخلاءُ المكان من قتلاه و جرحاه ، و ذهب الجميع إلا هو.
اقتربت منه ألاحظ صمته و نظراته الساكنة في نقطة ما، في حصاة ما ، مما خلفه القصف الوحشي.
لم يشعر بي واقفاً على رأسه ، أو ربما لم يكترث بي! حييته:
- مرحباً سعد!
لم يجب ، كرَّرت التَّحيةَ ، فردَّ:
- أنا لست سعداً ، أنا النَّحسُ بعينِهِ.
كِدتُ أضحكُ لو لم أرَ الدَّمعتين اللَّتين لاحتا منحدرتين صافيتين ، تلمعان عبر جدوال سمراءَ ، تحيطها سنابل شقراء وأُخرى فحميَّةُ السواد.
قطَعَتْ ذهولي كلماتُهُ المفجوعةُ:
- أنا منذ متى سعداً. أنا مجنونٌ يا أستاذ، أنا سبب نحسكم ، ألم تر الطائرات اليوم، و ماذا كنت أفعل حينذاك،!كنت أغني ، كنت أرقص أمام الدكان ، وكانت الصبايا تضحكن، لكنَّ الطائرات رأتنا نضحك فرحين ، فسقطت علينا كلَّها، أنا رأيتها، صغيرةً ، سوداءَ اللَّون ، هَوَتْ علينا ، أما البنات فقد هربن، لكن الطائرات لحقت بهن وقتلتهُن و ماتت الضحكات معهن ، و أنا كذلك مِتُّ، نعم وأنا متُّ ، لم يأخذوني إلى القبر، فأنا لا أحب القبور، و لا أحب الطائرات أيضاً، لذلك أبقوني هنا ، على هذه الحجرة التي سقطت من السماء، من ذلك البيت العالي.
أعرف ، ستأتي الطائرات من جديد، وستقتل الضحكة و البنات .
و أنا كنت سعداً حقاً ، أما الآن فأنا نحس ، اسمي الآن نحس ، أنا النحس فهل تأتي الطائرات إلى النحس!
وددْتُ لو أبقى معَهُ ، إنَّه الآنَ إنسانٌ آخر ، إنه عاقل.
قال صاحب الدُّكان يوماً: " إنَّه كان يقول الحكمة أحياناً".
صاحب الدكان مات ، مات مع الصبايا الضاحكات.
لماذا بقي إذن سعد المجنون؟ ألم يصب بجرح ما. لم أستطع الابتعاد عنه أكثر ، كان وجهه مصفرَّاً و ما يزال يحكي، بلا صوت ، ظلَّت شفتاه تتحركان ، بتباطؤ ظاهر. لم أكن قد انتبهت لشريط الدم الذي لاح من قميصه الفضفاض المخطط ، صرخت بشيء من الرعب:
- هيَّا إلى المشفى.
لم يجب ، أنهضته ، كان ثقيل الوزن جداً ، حاولت المشي به إلى أي مكان قريب للإسعاف و المعالجة ، لكنه كاد يسقط من يدي حين تراخت أطرافه و مال رأسه ، مات سعد دون ابتسامة.